القوة مفهوم حركي ديناميكي غير ثابت يدخل في تكوينها عدد كبيرمن العناصر المتغيرة المادية وغير المادية التي ترتبط مع بعضها، والقوة بطبيعتهاشيء نسبي لأن قوة الدولة تقاس بمقارنتها بقوة الدول الأخرى، كما تظهر القوة بشكلتدريجي وهذا يعني أن بعض الدول الضعيفة نسبياً يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في أزمةمعينة بشكل سريع وغير متوقع بحيث يصبح بإمكانها التأثير على دولة أخرى أقوى منهاوحتى إجبارها على تغيير سياستها، فقد تلاشت قوة الولايات المتحدة الأمريكية أمامشعب فيتنام مع أنها تملك أسلحة دمار شامل، ولكن خشيت من إستخدامها خوفاً من رد فعلالصين الشعبية والإتحاد السوفيتي (السابق) مما دفع صانع القرار الأمريكي إلى حصرالمجهود الحربي في أسلحة تقليدية .
وتتدرج ممارسة القوة بين التأثير بالطرقالدبلوماسية من جهة وبين أسلوب الإجبار والقسر من جهة ثانية، وإن اللجوء إلى القوةهو في الحقيقة الوصول إلى مرحلة العجز عن الحل بالطرق السلمية ويعتمد السعي وراءالقوة على الموارد المتاحة من أجل تنفيذ سياسة الدولة (15) . وليس هناك حصر مانعوجامع لمصادر قوة الدولة خاصة في المجال الدولي إذ يختلف تأثير هذه المصادر من دولةلأخرى ومن فترة زمنية إلى أخرى في الدولة نفسها، إرتباطاً بطبيعة الإطار الدولي وبمصادر قوة الطرف الأخر في العلاقة، وبالقدرة على إدارة مصدر القوة من جانبالقيادات السياسية أو إستغلاله .
والحقيقة أن مفهوم القوة وبالمعنى والذي سبقوحددناه يتضمن كلا الجانبين، جانب إمتلاك أسباب القوة وجانب توظيف هذه الأسباب فيالتحكم في إرادة الآخرين وأفعالهم، في ضوء ما تقدم نستطيع أن نحدد خصائص القوة فيالمجال الدولي فيما يأتي:
أولاً : أن القوة هي جوهر العلاقات الدولية، كما أنالسلطة هي جوهر السياسة القومية والفارق بين القوة والسلطة أن هذه الأخيرة تتضمنالأولى، ولكنها ترتبط بغاية وهي تحقيق وحدة الجماعة، وبوسيلة هي الإحتكار الشرعي لأدوات القمع . وبعبارة أخرى فإن السلطة التي يدور حولها الصراع في السياسةالداخلية هي سلطة مستأنسة ومتمركزة في الحكومة التي تحتكرها لفرض تحقيق الوحدةوالإستقرار، أما القوة التي يدور حولها الصراع بين الدول فليست مستأنسة ولا متمركزةولا منظمة، والهدف منها تحقيق المصالح القومية لكل دولة وهي مصالح متعددة ومتعارضةبطبيعتها الأمر الذي يفسر طابع العداوة والحرب الذي يغلب على العلاقات الدولية،والناتج عن سعي كل الدول إلى فرض إرادتها وتحقيق مصالحها في غياب السلطة العلياالتي تحتكر أدوات القمع .
ثانياً : أن القوة ليست هدف في نفسها ولكنها وسيلةلممارسة النفوذ والتأثير الذي يتضمن تحقيق أهداف الدولة والتي لا تخرج عن تحقيقالمصالح القومية أو الوظيفة الحضارية فضلاً على حماية الأمن القومي وصيانةالاستقلال السياسي أو الردع .
ثالثاً : أن قوة الدولة دائماً نسبية ويتوقفتقديرها على أمرين أولهما القدرة على تحويل مصادر القوة المتاحة أو الكامنة إلى قوةفعالة وثانيهما محصلة قوة الطرف الأخر، قد تتساوى دولتان في إمتلاك مصادر القوةنفسها إلا أن قدرة إحداهما وعدم قدرة الأخرى على توظيف أحد أو بعض مصادر قوتها يجعلالقادر على توظيف مصادر قوتها أقوى نسبياً من الأخرى على الرغم عن تساوي مصادرالقوة في الدولتين .
من ناحية أخرى فإن وزن قوة الدولة في تغير مستمر نتيجةللتغيير في أهمية مصادر القوة المتاحة لديها، أو لدى الطرف الآخر أو لما قد يطرأعلى العلاقات بين الدول من تبادلات تؤثر في أوزان قوتها كالحروب أو المعاهدات أوالتحالفات أو الإنقسامات أو غير ذلك .
رابعاً : أن القوة صناعة وإرادة فرضتهاطبيعة العلاقات الدولية التي تتسم بالفوضى وغياب السلطة، الأمر الذي فرض على الدولالسعي بشتى الوسائل والطرق إلى صنع مصادر القوة والعوامل المهنية لتفعيلها، بوصفهاالضمان الحقيقي لأمنها وإستقرارها وتحقيق مصالحها، ولعل ما يثبت أن القوة صناعةوإرادة هي قوة كل من اليابان وألمانيا الآن مقارنة بأوضاعها في نهاية الحربالعالمية الثانية، وقد تمتلك بعض الدول العديد من مصادر القوة كالسكان والمواردوالإقليم والعامل المعنوي، إلا أنها تفتقد القدرة على إنتاج القوة وإدارتها علىالرغم من عراقتها التاريخية وسمو تقاليدها الحضارية .
خامساً : تتصف القوةبندرتها مما يترتب على ذلك أن الدول مهما ملكت من قوة فأنها تحرص على ما تمتلكهوتحاول عدم تشتيت جهودها وإن القوة بطبيعتها شي نسبي لأن قوة الدولة تقاس بمقارنتهابقوة الدول الأخرى . كما تظهر القوة بشكل تدريجي وهذا يعني أن بعض الدول الضعيفةنسبياً يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في أزمة معينة بشكل سريع وغير متوقع والقوة مفهومحركي ديناميكي غير ثابت يدخل في تكوينها عدد كبير من العناصر المتغيرة المادية وغيرالمادية التي ترتبط مع بعضها والبعض الآخر، لذلك فإن أي إستنتاج يتعلق بقوة الدولةأو ترتيبها بين الدول الأخرى وأن كان مبنياً على معلومات حديثة هو في الواقع مرهونبوقت ظهوره، وهذا يتطلب إعادة تقييم الدولة بصورة مستمرة (16)
سادساً : تتدرجممارسة القوة بين التأثير بالطرق الدبلوماسية من جهة وبين أسلوب الإجبار والقسر منجهة ثانية، وأن اللجوء إلى القوة وهو في الحقيقة الوصول إلى مرحلة العجز عن الحلبالطرق السلمية، ويعتمد السعي وراء القوة على المـوارد المتاحة من أجل تنفيذ سياسةالدولة معتمدين على دفع هذه القوة إلى حدها الأقصى من خلال نوعية الدبلوماسية التيتترجم الموارد القومية إلى قوة قومية (17).
أدوات القـوة
تمارس الدولة قوتها في النطاق الخارجي من خلال أداتين هما : الدبلوماسية والحرب، وفي ضوء مصادر القوة التي أشرنا إليها آنفاً والتي تحدد الدولةعلى أساسها أهدافها، وتقرر الاختيار بين هذه الأداة أو تلك من أدوات القوة، والدولةالأقوى هي التي تفوز دائماً في الدبلوماسية وفي الحرب، وفي إطار يغلب عليه الصراع،وتغيب عنه السلطة العليا الحاكمة، ولا تعرف لغة المنطق، ولا قيم العدالة والمساواة،و لا معيار الموضوعية، وإنما ثمة هدف واحد هو المصلحة، وأداتان هما الدبلوماسيةوالحرب .
والدبلوماسية تسبق الحرب وتلازمها وتعقبها، والأولى أن تحقق الدول غايتها وتفرضإرادتها من خلال الأساليب والمهارات الدبلوماسية التي ترتكز إلى قوة فعلية، يمكنالتلويح بها أو التهديد باستخدامها دون التورط في الحرب، لما تتطلبه من نفقات وموارد، وما تخلفه من خسائر ومخاطر على كلا الجانبين، وبصفة خاصة بعد شيوع استخدامأسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعها، وحرص كثير من الدول على امتلاكها .
وعندما تخفق الدبلوماسية في إجبار الطرف الآخر على الإذعان لإرادة الدولة تصبحضرورة لإثبات القدرة وفرض الاحترام وإجبار الطرف الآخر على الخضوع لإرادة الأقوى . وأثناء ذاـك تواصل الدبلوماسية مهامها لإقناع الخصم بضرورة التسليم، وصياغة شروطالتسليم، ومعاهدات لعقد الهدنة أو الصلح مع أطراف أخرى تكسبها إلى جانبها أوتحييدها في الصراع الدائر، أو غير ذلك من الجهود الدبلوماسية التي تلازم الحرب،وتساعد على تحقيق أهدافها بأقل الخسائر الممكنة .
وعقب انتهاء الحرب تنشط الدبلوماسية من جديد لصياغة الاتفاقات، وإبرام المعاهدات التي تتضمن اعتراف الطرفالآخر بالهزيمة، وقبوله الخضوع الإرادي لشروط الدولة المنتصرة، وعلى مقتضى مصلحتهاالقومية .
وهكذا تتكامل الدبلوماسية والحرب بوصفهما أداتين للقوة أو وسيلتين لإقناع أوإكراه الطرف الآخر على الامتثال لإرادة الدولة . ولعل هذا التكامل يفسر عدة مظاهر،مثل مشاركة الدبلوماسيين والعسكريين في مجالس الأمن القومي وفي تشكيل سياساته،وظهور ما يعرف بالدبلوماسية العسكرية أو دبلوماسية القوة، نتيجة لتعيين العسكريين - بعد انتهاء مد ة خدمتهم بالجيش – في السلك الدبلوماسي، وغير ذلك من مظاهر التقاربوالتعاون بين الدبلوماسيين والعسكريين، وبصفة خاصة عقب الحرب العالمية الثانية التيجسدت هذه العلاقة الوثيقة بين الدبلوماسية والحرب بوصفهما أداتين للقوة، ودعامتينلمفهوم الأمن القومي (18) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق